خطاب الكراهية والتطرف في مواجهة غير المسلم
يهدف هذا المقال لتبصير المحامين بالمؤسسات الدينية التي تصدر فتاوى تنطوي على تمييز ضد الأشخاص غير المسلمين، وقد خص هذا المقال الفتوى الصادرة من مجمع الفقه الإسلامي في حق المحامي. والغرض من ذلك أن يتمكن المحامي من الاطلاع بدوره في التصدي لظاهرة التطرف بالطرق القانونية لحماية الحق في العمل وعدم التمييز ضد الآخرين بسبب دينهم.
سنتناول في هذا المقال خلفية عن مجمع الفقه الإسلامي بالتعرض لبعض الفتاوى التي يصدرها فيما يتعلق بالتكفير وما يمس حقوق الأقليات أو الطوائف. بعد ذلك سيقترح المقال ما يمكن اتخاذه من إجراءات قانونية لمواجهة هذا النوع من الفتاوى.
وبما أننا لم نقف على تجربة قانونية عملية في التصدي لهذا النوع من التطرف فستكون هذه المقترحات بمثابة فتح باب للنقاش بغرض الوصول للوسيلة القانونية المُثلى لمواجهة هذه الفتاوى المتطرفة، كما أشرنا من قبل.
مقدمة
ذكرنا في مقال آخر أن مجمع الفقه الإسلامي يتبنى توجهاً إقصائيًا، ليس في مواجهة غير المسلمين فحسب بل في مواجهة العديد من الطوائف الإسلامية نفسها، مثل الصوفية والقرآنيين والشيعة والجمهوريين وغيرهم. وهذا التوجه يمثل رأس الرمح للنظام الأصولي السلفي الذي يتبناه نظام الإخوان المسلمين الذي حكم السودان لثلاثة عقود قبل أن تطيح به الثورة الشعبية التي انطلقت في ديسمبر من العام ٢٠١٨. ولكن كما ذكرنا في المقال الأول فإن مؤسسات الدولة الدينية ما تزال قائمة وموجودة كمجمع الفقه الإسلامي وهيئة تزكية المجتمع ومحاكم النظام العام، حتى بعد إلغاء القانون، بل وما تزال بعض القوانين التي تعمل بها سارية حتى الآن.
في هذا المقال سنتعرض لإحدى فتاوى مجمع الفقه الإسلامي التي تتعارض مع حقوق المواطنة والحقوق الدستورية كافة ومواثيق حقوق الإنسان التي صادق عليها السودان. جاءت الفتوى بعنوان: (حكم العمل في مكتب محاماة لغير المسلمين)، وهي منشورة بمجلة مجمع الفقه الإسلامي (العدد السادس بتاريخ ٢٠١١)، ونصها كالآتي:
"حدد الإسلام علاقته مع أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، على حسب موقفهم من الإسلام، وهم ثلاث أصناف:
الصنف الأول: الأعداء: وهؤلاء هم المعتدون كالصهاينة من اليهود والصليبيين من النصارى، فهؤلاء لا تعامل معهم.
الصنف الثاني: المنافقون: وهؤلاء الحذر الحذر منهم، فهم أشد خطراً على المسلمين من الأعداء الظاهرين.
الصنف الثالث: المسالمون الذين يعيشون مع المسلمين وخارج أرض الإسلام، فهؤلاء نعاملهم بالحسنى ونجادلهم بالتي هي أحسن، وقد أمر الله ببر الوالدين إن كان منهم، وأباح التزوج بالكتابيات.
ونقول للأستاذ المحامي إن عملك في مكتب محامي مسيحي فيه شبهة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، فعليك أن تترك العمل في هذا المكتب. وأما من دعا لك بالخير منهم فأدعو له بخير الدنيا فقط، ولا تقل عبارة فيها خير الآخرة أو تقل له يهديك الله. والحذار بالسفور بالود القلبي تجاه هؤلاء تحقيقاً لمبدأ الولاء والبراء). انتهى نص الفتوى.
هذا يستند بصريح العبارة على عقيدة الولاء والبراء التي تعتبر أحد أهم المرتكزات التي ترتكن إليها الجماعات المتطرفة في أدبياتها، وتعدها مسوغًا مباشرًا لعمليات القتل والذبح باسم الدين، وتناقلها علماء الإسلام منذ بداية الدعوة إلى الآن، حتى نفروا المسلمين من مجرد ذكر المصطلح الذي جعلوه سيفًا مسلطًا على رقاب المسلمين، عن طريق تشويهه وتأويله حسب ما يحقق مصالحهم أو فهمهم الضيق لشرع الله، فاستحلوا بذلك الدماء والأموال.
ويقول الشيخ محمد صالح العثيمين، وهو من دعاة المذهب الوهابي، في شرح عقيدة الولاء والبراء: "أن البراء والولاء لله سبحانه: أن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه كما قال سبحانه وتعالى فيجب على كل مؤمن أن يتبرأ من كل مشرك وكافر. أما الكفار المرتدون فيجب هجرهم والبعد عنهم وألا يجالسوا ولا يواكلوا، وذلك إذا قام الإنسان بنصحهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى الإسلام فأبوا، وذلك لأن المرتد لا يقر على ردته بل يدعى إلى الرجوع إلى ما خرج منه فإن أبى وجب قتله، وإذا قتل على ردته فإنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يرمى بثيابه ورجس دمه في حفرة بعيداً عن المقابر الإسلامية في مكان غير مملوك. وأما الكفار غير المرتدين فلهم حق القرابة إن كانوا من ذوي القربى كما قال تعالى: {وآت ذا القربى حقه}، وقال في الأبوين الكافرين المشركين: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي".
وبالتالي يتضح أن عقيدة الولاء والبراء تتعارض مع مبدأ عدم التمييز المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها السودان. ولكن هذه الفتوى تبين عدم اتساق منهج مؤسسات الدولة مع الدستور الساري بالبلاد والتزامات السودان الدولية، كما تؤكد ما ذهبنا إليه في المقال الأول وهذا المقال بأن مجمع الفقه الإسلامي يتبنى المنهج الوهابي السلفي القائم على الإقصاء والتطرف.
وبالعودة لموضوع الفتوى، وهو النهي عن العمل في مكتب محامٍ مسيحي، نجده يتعارض تعارضاً بيّناً مع القوانين السارية بالسودان في هذا الخصوص. فقانون المحاماة لسنة ١٩٨٣ لم يضع الإسلام شرطاً للحصول على رخصة مزاولة مهنة المحاماة، كما أثبتت الممارسة العملية أن عدداً مقدراً من المحامين المسيحين عملوا في مجال المحاماة وتسنموا هرم الخبرة والكفاءة ووجدوا القبول والاحترام من المجتمع. وبالنسبة للعمل في مكتب محامٍ مسيحي، فلم يضع قانون المحاماة الإسلام كشرط للعمل بمكتب محام آخر.
من ناحية ثانية، فإن الإسلام ليس شرطاً كذلك للعمل بالقضاء أو وزارة العدل، ومع أن الممارسة العملية أثبتت أن نظام الإخوان المسلمين قد وضع العراقيل أمام تعيين غير المسلمين، إلا أن الواقع العملي يثبت كذلك أن هناك عدد من القانونيين من غير المسلمين قد شغلوا، ومازال بعضهم، وظائف قضاة ومستشارين قانونيين بوزارة العدل، بل شغل بعضهم في فترات تاريخية مناصب رفيعة كمنصب النائب العام والمحامي العام وقضاة بالمحكمة الدستورية.
بهذا يتبين أن هذه الفتوى بعيدة كل البعد عن القوانين التي تنظم المهن القانونية وبعيدة كذلك عن واقع الممارسة العملية، ولكنها تظل خطوة أراد بها نظام الدولة الثيوقراطية التضييق على غير المسلمين بالسودان كما فعل في حالات أخرى مماثلة مثل نزع الأراضي ودور العبادة واعتقال الشخصيات الناشطة في مجال الحريات الدينية وغير ذلك من أساليب المضايقة، مانحاً المتنفذين غطاءً دينياً لممارساتهم التمييزية ضد غير المسلمين. ولكن يثور السؤال عن أثر هذه الفتوى ومدى إلزاميتها للمحامين.
الإجراءات القانونية التي يمكن اتخاذها
يتضح مما ذكرناه آنفاً أن هذه الفتوى ليس لها أثر قانوني لأن قانون مجمع الفقه الإسلامي لسنة ١٩٨٣ لم يمنح المجمع اختصاصا كهذا. ولكن بلا شك تمثل هذه الفتوى تعصباً قصد به تحقير غير المسلم والانتقاص من حقوقه في العيش بسلام والتمتع بحقوق متساوية قائمة على المواطنة وليس الدين. وبلا شك يندرج تحت طائلة المادة ١٢٥/١ من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١ والتي تقرأ على النحو التالي: (من يسب علناً أو يهين، بأي طريقة أياً من الأديان أو شعائرها أو معتقداتها أو مقدساتها أو يعمل على إثارة شعور الاحتقار والزراية بمعتنقيها، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز ستة أشهر أو بالغرامة أو بالجلد بما لا يجاوز أربعين جلدة). فنص هذه الفتوى ينطوي على إثارة شعور الاحتقار والزراية لغير المسلمين.
وفي تقديرنا أن أركان هذه الجريمة مكتملة وتضع المجمع كمؤسسة والأفراد الذين أصدروا الفتوى تحت طائلة المساءلة الجنائية. وكما ذكرنا في مقال سابق فإن المادة الثالثة من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١ تعرف كلمة "شخص" بأنها تشمل الشخص الطبيعي وكل شركة أو جمعية أو مجموعة من الأشخاص، سواء كانت ذات شخصية اعتبارية أم لم تكن. وقد كان التقادم يقف عقبةً إجرائية بخصوص وقائع هذه الفتوى تحديداً ، فالفتوى الصادرة قبل مدة زمنية لا يمكن بعد فواتها إقامة الدعوى الجنائية طبقاً لقانون الإجراءات الجنائية لسنة ١٩٩١، على الرغم من وجود سوابق قضائية تقول بانقطاع مدة التقادم في الجرائم ذات الطبيعة المستمرة، إلا أن قانون التعديلات المتنوعة لسنة ٢٠٢٠، أجرى تعديلاً مهماً على نص المادة ٣٨ من قانون الإجراءات الجنائية لسنة ١٩٩١ استثنى به الجرائم ذات الطبيعة المستمرة من التقادم المسقط للدعوى الجنائية فاتحاً المجال أمام مجابهة هكذا فتاوى.
إثارة هذا الأمر أمام المحكمة الدستورية لأنه ينطوي على مخالفة للعديد من الحقوق الدستورية المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية. فالمادة ٤٤ منها تنص على أن المواطنة هي أساس الحقوق المتساوية، وتنص المادة ٤٧ على عدم التمييز على أساس الدين وغيره، وتنص المادة ٥٦ على حرية العقيدة والعبادة. هذا فضلاً عن أن الفقرة الثانية من المادة ٤١ تنص على أن جميع الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان تعتبر جزءاً لا يتجزأ من هذه الوثيقة. ومن ثم يمكن الإشارة لجميع الحقوق المنصوص عليها في هذه المواثيق، كالمادة ٦ من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تنص على أن: (تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بالحق في العمل، الذي يشمل ما لكل شخص من حق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وتقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق). ومن المؤكد أن هذه الفتوى تتضمن دعوة للتضييق على حق العمل بالنسبة للمحامي المسلم الذي يرغب في العمل مع غير المسلم أو المحامي غير المسلم الذي يرغب في إدارة عمله من خلال الاستعانة بمحامين آخرين. ونشير هنا إلى هنا إلى نص المادة (٢/٢) من ذات العهد والتي تقرأ: تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بأن تضمن جعل ممارسة الحقوق المنصوص عليها في هذا العهد بريئة من أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب.
وتكون دعوى حماية الحق الدستوري مبنية على انتهاك مجمع الفقه الإسلامي لجميع الحقوق المذكورة فيما تقدم من خلال إصداره لهذه الفتوى. ولا يشترط في هذه الحالة استنفاد طرق تظلم معينة بل يمكن تقديم الدعوى الدستورية مباشرة. ويكون الالتماس بأن تصدر المحكمة الدستورية حكماً تقريرياً بأن هذه الفتوى تنتهك الحقوق الدستورية المشار إليها أعلاه وأن تلزم مجمع الفقه الإسلامي بالتراجع عن هذه الفتوى مع الاحتفاظ بالحق في اتخاذ أي إجراءات جنائية أو طلب التعويض عن الضرر أمام المحاكم المدنية.