انتهاكات الحريات الدينية من قبل الجهات الغير رسمية

تم إعداد هذا المقال لمساعدة المحامين الذين يدافعون عن ضحايا انتهاكات حرية الدين والمعتقد، ويركز المقال على الانتهاكات التي يرتكبها أشخاص أو جماعات لا تنتمي للدولة رسمياً، ويوضح الإجراءات القانونية التي يمكن أن يتخذها المحامون من أجل تحميل هؤلاء الأشخاص أو الجماعات المسئولية عن أفعالهم.

كما يوضح المقال أفضل الطرق القانونية للتعامل مع ما يسمى بـ "الفتاوى" التي عادة ما يصدرها شخص أو مجموعة من الأشخاص تبيح قتل الآخرين والتعدي عليهم.

مقدمة

من الشائع الاعتماد على فتاوى تكفيرية كمبرر لقتل الآخرين نيابة عن الدولة، وقد ظهرت هذه الممارسة بعد وفاة النبي محمد(ص) واستمرت حتى الآن. استُخدمت الفتاوى تاريخياً لقتل الناس باسم الدولة أو السلطان. هذه الفتاوى اليوم تصدر عن دول ومتطرفين وأحياناً من قبل بعض الفقهاء. على سبيل المثال، يذكر عبد القادر عودة (عالم مصري من الإخوان المسلمين) في كتابه الشهير (التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي) أن المرتد يقتل على يد حاكم الدولة الإسلامية، ولكن إذا لم يتم تجريم الردة بموجب القانون (كما هو الحال في مصر والسودان بعد إلغاء الردة في العام ٢٠٢٠)، لا يعني ذلك جواز الردة، وأن أي شخص مسموح له بقتل المرتد بنفسه لأن فعل القتل مسموح به أصلاً.

المثال العملي للفتاوى الصادرة عن الدول والتي استخدمتها لاحقًا الجهات الفاعلة غير الحكومية هو حالة الجماعة الأحمدية في باكستان والتي صنفتها الدولة في عام ١٩٧٤ على أنها غير مسلمة، ونتيجة لهذه الفتوى قُتل المئات من الأحمدية على يد المتطرفين.

ومن الأمثلة الواضحة أيضًا القتل خارج نطاق القانون الذي قامت به ما يسمى بالدولة الإسلامية في سوريا والعراق (داعش)، حيث قُتل العديد من الأبرياء الذين لم يكونوا مقاتلين ولا مسلحين لاختلاف العقيدة.

ولم يكن السودان استثناءً، كما أوردنا في مقال فتوى إجازة العمليات الانتحارية بواسطة المجاهدين.  شهد السودان كذلك عمليات انتحارية نتيجة لهذه الفتوى، منها على سبيل المثال هجوم جماعة التكفير والهجرة على مسجد في مدينة الثورة، أمدرمان، في العام ١٩٩٤، قُتل فيه ١٦ شخص وهجوم ذات الجماعة على مسجد بمدينة الجرافة أمدرمان في العام ٢٠٠٠ راح ضحيته ٢٤ بينهم أطفال.

الوضع في السودان بعد ثورة ٢٠١٨

كما أوضحنا في التعريفات السابقة، بدأ مفهوم الردة يتحول من قضية التحول عن الإسلام أو التخلي عنه إلى قضية تكفير المسلمين أنفسهم، وتنتشر هذه الممارسة على نطاق واسع في الوقت الحاضر، حيث يُعلن مسلم أو مجموعة من المسلمين أن شخصًا أو طائفة أخرى مرتدين أو خارجين عن الإسلام، على أساس الاختلافات بين هذه الجماعات أو الطوائف في تفسير أو فهم النصوص الدينية.

بعد ثورة سبتمبر العظيمة، التي قام بها الشعب السوداني ضد النظام الثيوقراطي للإخوان المسلمين الذي حكم السودان لمدة ثلاثة عقود، أخذ الاستقطاب الديني في التصاعد واتهمت بعض الجماعات الثورة بمعاداة الدين الإسلامي ووصفت القادة وموظفي الحكومة الجدد بالردة والعلمانية، التي يحاولون تصنيفها على أنها ردة. على سبيل المثال، وصف نائب رئيس أكاديمية الفقه الإسلامي أحد أعضاء مجلس الوزراء بأنه امرأة مرتدة لا تؤمن بما نؤمن به كمسلمين وأخذ خطاب الكراهية في الانتشار نتشر على نطاق واسع من قبل الجهات الفاعلة غير الحكومية.

التحليل القانوني

ظل القانون الجنائي السوداني لسنة ١٩٩١ يعاقب على هذه الأفعال بما لا يتناسب وخطورتها حتى تعديله في العام ٢٠٢٠، حيث نصت المادة ١٢٦ على: كل من يُعلن ردة شخص أو طائفة أو مجموعة من الأشخاص عن دينهم أو معتقداهم أو يُعلن تكفير ذلك الشخص أو تلك الطائفة على الملأ مهدراً بذلك دمه، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز عشرة سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معًا. وعلى الرغم من ذلك، لم يتغير الوضع نتيجة لتقاعس الشرطة والنيابة في تنفيذ القانون.

يجب أن يبذل المحامون قصارى جهدهم لفتح الدعوى الجنائية، تمهيداً لرفع قضية إلى المحكمة، ذلك أن القضاء على ممارسات استمرت لثلاثة عقود يتطلب التصدي بجدية وحسم لكل محاولات تهوين هذه الأفعال التي تُمهد لعودة ممارسات النظام السابق وتُفرغ الثورة من مبادئها، كما أنها تجعل مواد القانون مجرد نصوص لا قيمة لها، كما يتوجب على الحكومة

في قضية حكومة السودان // ضد مريم يحيى، أيد القاضي حكمه بما أسماه "سوابق قضائية" وهي بعض الاغتيالات التي حدثت في فترات سابقة مثل قضية محمود محمد طه ورشاد خليفة وفرج فودة والحلاج. وبدلاً من أن يستنكر القاضي هذه الاغتيالات التي ستبقى وصمة عار على جبين الإنسانية، استدعاها لتسبيب إدانة السيدة مريم يحيى بالردة.

وانطلاقاً من هذا المنطق التكفيري، لم يكن القاضي مخطئاً عندما حكم على محمود محمد طه بالإعدام، ولم يكن القاضي الذي حكم على مريم مخطئاً عندما حكم عليها بالإعدام متذرعاً بما أسماه "سابقة محمود محمد طه". بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك في محاولة إثبات صحة حكمه من خلال استشهاده باغتيال الحلاج وفرج فودة ورشاد خليفة. هذا يعيدنا إلى النقطة التي ذكرناها أعلاه: الفرق بين التطرف والاعتدال هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع، فالمتطرف يعتمد على التصفية الجسدية بشكل مباشر، في حين أن المعتدل يستخدم الأجهزة العدلية والأمنية المُنحازة لفكره لمحاربة الخصم، لكن النتيجة النهائية هي نفسها.

إن استشهاد القاضي بسابقة حكومة السودان ضد / محمود محمد طه لم يكن صدفة، بل كان يعبر عن نية مسبقة أراد القاضي من خلالها التعبير عن رفضه لبطلان محاكمة الأستاذ محمود محمد طه، فمن غير المعقول عقلاً ولا المقبول قانونًا أن يستند على سابقة ألغتها المحكمة العليا. ومع ذلك، لا يمكن قراءة هذا الموقف المتطرف بمعزل عن قرار محكمة الاستئناف نفسها والذي أيد حكم المحكمة الشرعية بشأن ردة الأستاذ محمود محمد طه.

من ناحية أخرى، فإن تجاهل هؤلاء القضاة، بدءً بالقاضي الذي حكم السيدة مريم يحيى، ومروراً بقرارات المحاكم الأعلى، لمبادئ المهنية والحياد وإنكار المبادئ الدستورية والقانونية لا يدل على جهله بالجوانب الفنية، وإنما يدل على عدم احترامه للدستور والسوابق القضائية والركون للمعتقدات الدينية التي لا تتوافق مع معتقدات من يحاكموهم. وما يدعو للدهشة أن كل حيثيات الحكم في قضية مريم قد تم نشرها، لكن القاضي لم يُحاسب على توجهه المتعنت والمتطرف.

إن قرار المحكمة العليا في قضية الأستاذ محمود محمد طه، والصادر في العام ١٩٨٦ وبعد ثورة شعبية شبيهة بثورة ديسمبر ٢٠١٩ استعاد للقضاء حيدته وثبت الحق في حرية الفكر والعقيدة فاتحاً المجال للحريات الدينية، إلا أن السودانيين لم يهنأوا كثيراً حيث حدثت انتكاسة كبيرة في العام ١٩٩١ عندما أُدرجت جريمة الردة في صلب القانون الجنائي.

 

دور المحاميين

على الرغم من نص المادة ١٢٦، الذي يعاقب بالسجن مدة تصل لعشر سنوات أو الغرامة أو العقوبتين معاً في مواجهة كل يُكفر أو يُعلن ردة شخص أو طائفة، وعلى الرغم من مخالفة العديد من المتطرفين لهذا النص بصورة متكررة وشبه يومية، إلا أنه وبعد مرور عام ونصف من تشريع هذه المادة لم تفتح السلطات أية دعوى جنائية تحت نص المادة ١٢٦؛ ولعل حالة التعود التي تشكلت خلال الثلاثين عاماً المنصرمة ساهمت بشكل كبير في ذلك، وهنا يأتي دور المحاميين والمدافعين عن حقوق الإنسان بالتوعية أولاً ومباشرة الإجراءات القانونية أمام النيابات والمحاكم، وكما ذكرنا آنفاً، فالعبء الأكبر في حماية الحقوق والحريات يقع على عاتق المحاميين، حتى لا نُبلى بانتكاسة أُخرى.

أول إجراء بعد مقابلة الشاكي وأخذ افادته هي التقدم بعريضة للنيابة المختصة، والاختصاص هنا مكاني وفقاً لنص المادة ٢٩ من قانون الإجراءات الجنائية، توضح اسم المُبلغ والمشكو ضده وملخص الوقائع التي تشير لمخالفة المادة ١٢٦ ومن ثم متابعة الإجراءات في المحكمة في حال تم فتح البلاغ أو استئناف قرار وكيل النيابة في حال رفض توجيه التهمة.

أخيراً، يجب الربط دائماً بين أي انتهاك يتم بناءً على تحريض من شخص أو جماعة دينية بنص المادة ٢٥ من القانون الجنائي، حيث يرتكب الجاني جريمة في معظم الأحيان تحت تأثير التحريض، والذي لولاه لما وقعت العديد من الانتهاكات.