التفريق بين الزوجين بسبب الدين

يهدف هذا المقال إلى تقديم معلومات للمدافعين عن الحريات الدينية وحرية المعتقد وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بمناهضة إبطال الزواج بسبب اختلاف دين المرأة والرجل، وعلى وجه الخصوص عندما تكون الزوجة مسلمة والزوج غير مسلم، إذ لا يجيز قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة ١٩٩١ هذا النوع من الزيجات. ويهدف المقال على وجه الخصوص لتوضيح الإجراءات اللازمة التي يجب على المحامي إتباعها في حالة توليه الدفاع عن زوجين تم إبطال زواجهما على هذا الأساس أو قدما للمحاكمة الجنائية بدعوى ارتكاب جريمة الزنا. ويهدف المقال كذلك للتعريف بالدستور والمواثيق الإقليمية والدولية التي يجب الاستناد عليها في مناهضة القوانين التي تقيد حرية الشخص في اختيار شريك/ة الزواج، وكيفية كتابة المذكرات القانونية في مختلف مراحل التقاضي.

مقدمة

صدر قانون الأحوال الشخصية للمسلمين في العام ١٩٩١ كأول تقنين لمسائل الأحوال الشخصية في السودان. واحتضن بين دفتيه أحكام الزواج والفرقة بين الزوجين والأهلية والولاية والهبة والوصية والوقف والميراث. وقبل صدور هذا القانون كان العمل في محاكم الأحوال الشخصية يعتمد على الرأي الراجح من المذهب الحنفي ثم المذهب المالكي، بالإضافة للنشرات والمنشورات التي يصدرها قاضي القضاة حتى العام ١٩٨٣ أو التي تصدرها المحكمة العليا – دائرة الأحوال الشخصية بعد هذا التاريخ، ولكن لم تتقيد المحاكم بمذهب معين تقيداً كاملاً. وقد كانت المحاكم التي تُعنى بالنظر في مسائل الأحوال الشخصية تسمى بالمحاكم الشرعية، وأنشئت أول محاكم شرعية نظامية في العام ١٩٠٢ بموجب لائحة تسمى لائحة المحاكم الشرعية. أما بالنسبة لقانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة ١٩٩١ فقد اعتمد على المذهب الحنفي في غالب نصوصه، إلا أنه لم يتقيد به تقيداً كاملاً وإن كان قد أورد نصاً في المادة الخامسة منه على وجوب العمل بالراجح من المذهب الحنفي فيما لا حكم فيه في هذا القانون.

الخطوة الأولى: مقابلة الضحية وجمع البيانات الأولية عن القضية

يعتبر زواج غير المسلم من الأمور غير المقبولة في الفقه الإسلامي التقليدي وأصبح من كذلك من الأمور الحساسة لدى أفراد المجتمع المسلم وخصوصاً الجماعات المتطرفة. وقد وجد هذا الأمر طريقه للتقنين في قانون الأحوال الشخصية كما سنبين لاحقاً، لذلك يجب على المحامي أن يتوخى الحذر ويعطي الأولوية لسلامة الزوجين وأفراد أسرتيهما، وكذلك لنفسه.

عند مقابلة الزوجين سواءً كانا متهمين بجريمة الزنا أم مدعىً عليها في دعوى إبطال زواج بواسطة محكمة الأحوال الشخصية، فعلى المحامي أن أخذ البيانات الأولية المتعلقة بالزوجين، كالاسم، والديانة، وعنوان السكن والعمل، وكل البيانات المتعلقة بالقضية مثل تاريخ الزواج ووثيقة الزواج ورقم القضية وكيفية التبليغ عنهما ومكان ابرام الزواج، وأي معلومات عن المبلغ. ومن المهم جداً معرفة رغبة الزوجين في التصدي للقضية؛ فعلى سبيل المثال، يختار بعض الأشخاص إخفاء دينهم الذي يؤمنون به بغية تفادي المحاكمة، بينما يختار آخرون طريق المواجهة من مفهوم حقوق الانسان ومواجهة القوانين التمييزية رغبةً في التغيير، ولكلٍ تبعاته التي يجب أن يوضحها المحامي، مع تقييم المخاطر التي قد تواجه الضحايا سواءً في المحكمة أو إذا أطلق سراحهما بالبراءة أو برفض الدعوى.

 

الخطوة الثانية: التحليل القانوني

ركنا عقد الزواج بموجب قانون الأحوال الشخصية للمسلمين هما: الزوجان والإيجاب والقبول، حسبما نصت المادة ١٢ من القانون؛ وقد اشترطت المادة ١٣/أ من ذات القانون ألا تكون المرأة محرمة على الرجل تحريماً مؤقتًا أو مؤبدًا، بينما اشترطت المادة ٣/د على أن يكون الزوج كفؤًا للزوجة. والمحرمات على التأبيد وفقاً لنص المادة ١٥ وما بعدها محرمات بالنسب كالأصول والفروع؛ ومحرمات بالمصاهرة كزوجة الأب أو أصول وفروع الزوجة؛ محرمات بالرضاع إذا وقع الرضاع في العامين الأولين بخمس رضعات مشبعاتك ومحرمات بالملاعنة. أما المحرمات على التأقيت وقد نصت عليهم المادة ١٩ك وما نود التركيز عليه هنا هي الفقرة هـ من المادة والتي حرمت الزواج من المرأة التي لا تدين بدين سماوي، مما يشكل تمييزاً صارخاً ضد الكثير من النساء السودانيات، كالملحدات أو من يعتقدن في الأديان غير السماوية، رغم اعتراف الوثيقة الدستورية والقوانين بحق أصحاب كريم المعتقدات ومن لا يدينون بأي دين. من جهة أخرى، فقد نصت المادة ٢١ على أن العبرة في الكفاءة بالدين والخلق. وعلى الرغم من عدم ذكر دين مُحدد، الا أن الدين المقصود هنا هو الإسلام، لا سواه. ففضلاً عن أن القانون خاص بالمسلمين، فقد نصت المادة ١١٤/١ والمتعلقة بدين المحضون على أن يتبع المحضون خير الأبوين ديناً، ونصت الفقرة التي تليها على: "إذا كانت الحاضنة على غير دين أب المحضون المسلم، فتسقط حضانتها بإكمال المحضون السنة الخامسة من عمره أو عند خشية استغلالها للحضانة، لتنشئة المحضون على غير دين أبيه". عليه، وبما أن العبرة في كفاءة الزوج بدينه وهو الإسلام، فيجوز للرجل المسلم أن يتزوج بالمرأة المسلمة، وهذا هو الأصل، كما يجوز له أيضاً أن يتزوج بالمرأة المسيحية واليهودية، ولكن لا يجوز له أن يتزوج بالمرأة التي لا تدين بأي من هذه الديانات الثلاث. أما بالنسبة للمرأة المسلمة فلا يجوز لها مطلقاً أن تتزوج برجل غير مسلم، ذلك أن المادة ١٢من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين نصت على ركني الزواج وهما: الزوجان والإيجاب والقبول؛ ولكلٍ شروط صحة. إحدي شروط صحة ركن الزوجان هو هو أن يكون الزوج كفؤاً للزوجة بحسب المادة ١٣/٢؛ وبالحديث عن الكفاءة فقد نصت المادة ٢١ على العبرة في الكفاءة بالدين والخلق، ولا حاجة بنا لاثبات أن الدين المقصود هو الدين الإسلامي. وباستقراء نص المادة ٦٠ من ذات القانون والتي تعرف الزواج الباطل بانه الزواج الذي اختل ركن من أركانه أو شرط من شروط صحة الركن  فان زواج المسلمة من مسيحي يُعتبر باطلاً، بل أنه يُعد مخالفة لأحكام المادة ١٤٥ من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١، إذ ينص البند الثالث منها على ألا يعتبر الزواج المجمع على بطلانه رباطاً شرعياً.

وبالتالي فمن الواضح أن قانون الأحوال الشخصية لا يقف على مسافة واحدة من جميع الأديان، وإنما يميز بين المواطنين على أساس الدين، واضعا الدين الإسلامي في المرتبة الأولى ومن بعده الديانتين المسيحية واليهودية، وفي المرتبة الثالثة الأديان الأخرى وغيرها من المعتقدات الكريمة واللادينيين.                                                                     

ولتوضيح الآثار القانونية المترتبة على الزواج المحظور على أساس ديني في قانون الأحوال الشخصية سنعرض مثالين لتطبيقات المحاكم السودانية. المثال الأول هو قضاء المحكمة الشرعية في العام ١٩٦٨ في قضية الأستاذ محمود محمد طه، والثاني قضاء محكمة جنايات الحاج يوسف في قضية السيدة مريم يحيى إبراهيم ودانيال واني بسنسيو في العام ٢٠١٤.    ففي القضية الأولى تقدم أستاذان من جامعة أمدرمان الإسلامية بطلب لمحكمة الاستئناف العليا الشرعية ضد رئيس الحزب الجمهوري الأستاذ محمود محمد طه التمسا فيه، من ضمن طلبات أخرى، إعلان ردة الأستاذ محمود محمد طه عن الإسلام وتطليق زوجته المسلمة منه. وقد قبلت المحكمة العريضة ثم استمعت المحكمة لأقوال المدعيَيْن وأربعة شهود في غياب المدعى عليه، وبعدها أصدرت حكماً غيابياً بتاريخ ١٨/١١/١٩٦٨ قضت فيه للمدعيَيْن حسبةً على المدعى عليه الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري بأنه مرتد عن الإسلام، كما قررت صرف النظر عن بقية الطلبات الواردة بالعريضة لأنها من الأمور التي تتعلق وتترتب على الحكم. وفي القضية الثانية قررت محكمة جنايات الحاج يوسف عدم صحة زواج السيد دانيال بسنسيو والسيدة مريم يحيى ومن ثم أدانت السيدة مريم يحيى تحت طائلة المادة ١٤٥ من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١ (جريمة الزنا) وحكمت عليها بالجلد مائة جلدة حداً، مستندةً في ذلك على بطلان زواجها، رغم عدم اختصاص المحكمة الجنائية المسائل الشرعية. في حين برأت المحكمة الجنائية السيد دانيال من الجريمة ذاتها لانعدام الركن المعنوي للجريمة، وهو ما يعرف في القانون بالقصد الجنائي، تأسيساً على أنه لم يكن يعلم في وقت ارتكاب جريمة الزنا مع زوجته، أنها مسلمة وليست مسيحية. وقد أشار أحد قضاة محكمة الاستئناف، بعد إعلان براءة السيدة مريم يحيى إلى ضرورة إقامة دعوى إبطال زواج أمام محكمة الأحوال الشخصية المختصة، وهو ما قد كان إلا أن سفرها خارج السودان حال دون استمرار الدعوى والتي لا تزال سيفاً مسلطًا على رقبتها، حيث يترتب على إبطال زواجها مسألة أكثر خطورة تتعلق بطفليها الذين سيصبحان "أبناء زنا" وفقاً حال بطلان زواجها.

إن طلب التفريق بين الأستاذ محمود وزوجته، وإعلان بطلان زواج السيدة مريم والسيد دانيال، وان كان من محكمة غير مختصة، يعتبران من الأمثلة الحية على انتشار الأصولية السلفية في السودان وتسللها إلى أروقة المحاكم. فالنظام القانوني السوداني القائم على الشريعة الاسلامية في شكلها السلفي يضع المتاريس في طريق انصهار أفراد المجتمع من خلال مؤسسة الزواج بسبب الدين، لكونهم لا يجيزون زواج المسلمة من غير المسلم. ويتوكؤون، فيما ذهبوا إليه، على آراء فقهية وردت في بيئة مختلفة عن حاضرنا، وبتعامٍ تام عن مستجدات الواقع كالهوية والمواطنة والحقوق الدستورية وما تقتضيه هذه المبادئ من مساواة بين الناس بغض النظر عن الدين أو غيره من أسباب التمييز. غير أن ما يزيد هذا الأمر إزوراراً هو أن تتأثر الدولة، من خلال أجهزتها العدلية وعسس القانون، فالمشكلة الأساسية هي أن الدولة لا تقف على مسافة متساوية من المواطنين، بل تمنع إنصهارهم في قالب واحد يمكن أن يشكل قاسماً مشتركاً للهوية في المستقبل. فهذا الفقه السلفي الذي يقضي بالتفريق بين الزوجين بواسطة السلطان ظهر في فترة تاريخية تزيد عن الألف عام، حين كان العالم مقسماً إلى فسطاطين: هما دار الحرب ودار السلام. ومن ثم لا يمكن قراءة هذا الفقه بمعزل عن سياقه الموضوعي الذي أنتج فيه (عامل الزمان والمكان والثقافة والوضع الإقتصادي والإجتماعي والسياسي). ولكن اقتباسه هكذا وغرسه في بيئة مختلفة، دون مراعاة للظرف الموضوعي، أدى وسيؤدي لخلل كبير في قضايا حساسة كالهوية والمواطنة. وبالتالي لا بد من قراءة مستنيرة لنصوص الدين تلائم الظرف الموضوعي لحياتنا المعاصرة. فقانون الأحوال الشخصية بحالته الراهنة يشكل حجر عثرة أمام تطور المجتمع.

بمعنى آخر يجب أن يكون اختيار الزوج أو الزوجة من المسائل الخاصة بالطرفين، وقد يكون الدين في هذه الحالة عاملاً من عوامل الاختيار بالنسبة للشخص، فمن حقه أن يمتنع عن الزواج من شخص آخر إذا كان دينه الذي يعتنقه يمنعه عن هذا الارتباط، ولكن لا يصح أن تكون الدولة طرفاً في هذا الاختيار، لئلا تميز بين مواطنيها. فتدخل الدولة للتفريق بين الزوجين لأسباب دينية يوصد الباب أمام الحريات الشخصية وحسن إدارة التنوع الديني والإثني في المجتمع الواحد.

الخطوة الثالثة: التدخل بواسطة المحامي كممثل للمتهم

لا شك في أن التمييز على أساس الدين يعتبر انتهاكًا صارخاً للحريات الدينية والشخصية والحق في تكوين الأسرة بالرضا التام بين الطرفين. كما أن جميع هذه الحقوق منصوص عليها في الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية التي صادق عليها السودان.

في هذا النوع من القضايا يمكن للمحامي أن يسلك أحد طريقين:

الأول؛ أن يتقدم بعريضة لحماية حق دستوري أمام المحكمة الدستورية ويطلب منها إصدار أمر فوري بوقف إجراءات القضية أمام محكمة أول درجة إلى حين الفصل في القضية الدستورية. وأن يبين في العريضة الدستورية الحقوق الدستورية التي أهدرت بحسب وقائع القضية المعينة. ويطلب من المحكمة الدستورية في نهاية العريضة شطب الدعاوى المقامة في مواجهة الزوجين وإعلان عدم دستورية النصوص التي استندت عليها الدعاوى.

الثاني؛ أن يستمر المحامي في مناهضة قضية إبطال الزواج أو القضية الجنائية. وفي حال كان هناك اتهام بجريمة الزنا، فانه من المهم تقديم طلب للمحكمة الجنائية بتحويل الدعوى الي المحكمة الشرعية، لتقرر صحة الزواج أو بطلانه ومن ثم إعادة الأوراق للمحكمة الجنائية لتصدر حكمها، إن قررت إبطال الزواج. ذلك أن المحكمة الجنائية غير مختصة بالنظر في صحة عقد الزواج من عدمها -رغم أنها درجت على القيام بهذا الدور دون وجه حق-. وفي حال قررت المحكمة الشرعية بطلان الزواج يمكن مناهضة القرار أمام كافة المحاكم بمختلف درجاتها انتهاءً بدائرة المراجعة بالمحكمة القومية العليا، ومن ثم يتقدم المحامي بعريضة طعن دستوري أمام المحكمة الدستورية بعد استنفاد جميع درجات التظلم التي يتيحها القانون. وفي حال رفضت المحكمة الجنائية طلب الإحالة، ننصح كذلك باستئناف القرار وفق ما بينا أعلاه.

والخيار الثاني، في تقدرنا، وهو الأفضل إذا وضعنا في الاعتبار أن المحكمة الدستورية كثيراً ما تتخذ من عدم استنفاد طرق التظلم المتاحة سبباً لشطب القضية وإغلاق الباب أمام الطعن في دستورية القوانين المبنية على الشريعة الإسلامية.

في أثناء المرافعات بمحكمة أول درجة يستخدم المحامي مهاراته القانونية والفنية لمناهضة القضية الجنائية أو قضية فسخ الزواج ويقدم كافة المستندات التي تدعم قضيته وعلى وجه الخصوص:

١. وثيقة الزواج في الكنيسة أو الصادرة من خارج السودان إذا أبرم عقد الزواج خارج السودان،

٢. أي قرار صادر من لجنة دولية أو إقليمية يؤيد الزواج بغض النظر عن دين الزوجين،

٣.  أي كتب أو مقالات من فقهاء مسلمين يؤيدون الزواج بغض النظر عن دين الزوجين.

وعلى المحامي عند تقديم المستندات في الفقرتين الأولى والثانية أن يطلب من المحكمة أن تأخذ علماً قضائياً بهذه المستندات طبقاً لأحكام المادة ١٤/٣ من قانون الإثبات لسنة ١٩٩٤.

 

الخطوة الرابعة:  مراحل استئناف قرار المحكمة

إذا صدر قرار محكمة أول درجة ببطلان الزواج أو بإدانة الزوجين بارتكاب جريمة الزنا فيجب استئناف القرار لمحكمة الاستئناف خلال خمسة عشر يوماً طبقاً لأحكام المادة ١٨٤ من قانون الإجراءات الجنائية لسنة ١٩٩١ أو المادة ١٧٧ من قانون الإجراءات المدنية لسنة ١٩٨٤، بحسب الحال. وإذا تأيد القرار فيجب استئنافه للمحكمة العليا وبعدها لدائرة المراجعة بالمحكمة العليا. وأخيراً يقدم طعن دستوري للمحكمة الدستورية يقوم على سبب رئيسي وهو إعلان عدم دستورية المواد المشار اليها أعلاه ومن ثم المطالبة ببطلان كافة إجراءات المحاكمة مع إعلان براءة المتهمين أو إعلان صحة عقد الزواج.