جريمة الردة

أُعِدّت التوصيات الواردة في هذا المقال لمساعدة المحامين المدافعين عن الحريات الدينية في التصدي للدفاع عن كل شخص يواجه خطر الإعدام بسبب تغيير دينه أو التخلي عنه، وذلك عندما يقع تحت طائلة المادة ١٢٦ من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١. ويهدف المقال على وجه الخصوص لتوضيح الإجراءات اللازمة التي يجب على المحامي إتباعها في حالة توليه الدفاع عن شخص قدم للمحاكمة لهذا السبب وتعريفه بالدستور والمواثيق الإقليمية والدولية التي يجب الاستناد عليها في مناهضة القوانين التي تقيد حرية الشخص في تغيير دينه أو طائفته، وكيفية كتابة المذكرات القانونية في مختلف مراحل التقاضي. وعلى الرغم من إلغاء المادة بموجب قانون التعديلات المتنوعة في العام ٢٠٢٠ في المرحلة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر المجيدة وابدالها بمادة تُجرم التكفير، إلا أن دراسة المادة، في تقديرنا، مهم للغاية لا سيما وأن العديد من مواد القانون الأخرى ذات الصلة، والتي تحرم من يغير دينه من حقوق أساسية، أغفلها المشرع عند إلغاء جريمة الردة ولا زالت سارية، كما أنها-جريمة الردة- مرت بعدة مراحل قبل الغائها يتوجب فهمها والظروف التي قادت اليها أملاً في عدم الزج بها مرةً أخرى في القانون الجنائي بعد انتهاء الفترة الانتقالية.

مقدمة

لم يكن تغيير الدين فعلاً معاقباً عليه في السودان حتى العام ١٩٩٠. وعلى الرغم من ذلك شهدت المحاكم السودانية محاكمات عديدة للأستاذ محمود محمد طه، مؤسس الحزب الجمهوري وجماعة الإخوان الجمهوريين في السودان، وقد انتهت هذه المحاكمات بإعدامه في العام ١٩٨٥ على الرغم من عدم وجود نص يجرم الردة، إذ لجأت المحكمة لقانون أصول الأحكام القضائية الذي يجيز للقاضي تطبيق الشريعة الإسلامية على الرغم من غياب النص عليها صراحة في القانون.

وقد اتسمت هذه المحاكمات بالمخالفة الصريحة لنصوص القانون والإجراءات السليمة لكونها جريمة حديثة بالنسبة للنظام القانوني السوداني. وقد بدأت هذه المحاكمات أمام المحكمة الشرعية في مدينتي الخرطوم وبورتسودان وانتهت المحكمة الشرعية في الخرطوم في العام ١٩٦٨ إلى إعلان ردة الأستاذ محمود محمد طه ومصادرة كتبه وحكم آخر يُفهم منه تطليق زوجته المسلمة منه. وكانت آخر محاكمة له في العام ١٩٨٥ أمام محكمة جنائية عُرفت وقتذاك بمحكمة الطوارئ والتي انتهت إلى الحكم عليه بالإعدام. وقد نُفّذ هذا الحكم في يناير من العام ١٩٨٥.

في العام ١٩٩١ تم تقنين تغيير الدين كجريمة تحت مسمى (الردة) في المادة ١٢٦ من القانون الجنائي لسنة ٩٩١. وتم تعديل هذه المادة في العام ٢٠١٥ بإضافة أفعال اعتبرها المشرع ردة مثل سب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وزوجاته، وقد قصد المشرع من هذا النص التضييق على طائفة الشيعة بالسودان مما اقتضى الأمر أن يقوم البرلمان بالتعديل لتحجيم دور طائفة الشيعة. وهنا نلحظ ان المادة بعد التعديل توسعت في أسباب الردة وتجدر الاشارة الي ان هنالك جدل فقهي تاريخي بين مدراس اسلامية مختلفة كأهل الكتاب والسنة، القرآنيين، الشيعة وغيرهم، الأمر الذي يجعل من المادة ليس تضييقاً فقط على بعض الجماعات الاسلامية في منهجها في التدين وفهم تعاليم الدين، بل جعلت من مدرسة اهل السنة هي المعيار الصحيح للدين في السودان.

كما نلاحظ أيضاً أن المشرع قد أضاف عقوبات أخرى لم تكن موجودة من قبل كالجلد والسجن.

في العام ٢٠٢٠، وفي تطور ايجابي، أُلغيت جريمة الردة وحل نص يُجرم التكفير محل المادة ١٢٦، إلا أن التعديل جاء معزولاً ولم يشمل إلغاء مواد أخرى مرتبطة بالدين، تحرم من يغير دينه من حقوق أساسية؛ وعلى سبيل، المثال نص المادة ٣/١٤٥ من القانون الجنائي والذي يحول العلاقة الزوجية الي جريمة زنا حال غير الزوج المسلم دينه، وتبعاً لذلك فان أي أطفال لاحقين يُعرفوا كأبناء زنا وفقاً لنص المادة ٤٠٦ من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة ١٩٩١، كما لا يجوز التوارث بينهم لاختلاف الدين وفقاً للمادة ٣٥١ من ذات القانون.

الخطوة الأولى: مقابلة الضحية وجمع البيانات الأولية عن القضية

ظلت جريمة الردة لأكثر من ثلاثة عقود أحد الجرائم الخطيرة لكونها معاقباً عليه بالإعدام، هذا فضلاً عن كونها من الجرائم ذات الحساسية العالية بالنسبة لأنظمة الحكم الثيوقراطية، حيث تعرض المتهمون والمدانون بها للمراقبة والمضايقة حتى بعد تبرئتهم من المحكمة. وكان، ولازال، على المحاميين توخى الحذر في هذا النوع من القضايا وإعطاء الأولوية لسلامة المتهم وأفراد أسرته وأفراد المجموعة أو الطائفة التي ينتمي لها، وكذلك لأنفسهم، وبكل أسف فقد تعرض الكثير من ضحايا الحريات الدينية للاعتقال، والتعذيب، ومصادرة الممتلكات وغيرها من ضروب الانتهاكات مما اضطر الكثير منهم للهرب خارج البلاد.

ويجب على المحامي أن يطلب مقابلة المتهم في مكان خاص يحفظ للمتهم خصوصيته ويضمن عدم سماع أقواله بواسطة أفراد الحراسة، وأخد كل الوقائع والبيانات المتعلقة بالقضية. من المهم كذلك معرفة رغبة الضحية في التصدي للقضية والدفاع عن معتقداته وأفكاره، وعلى المحامي توضيح كل الاحتمالات القانونية المُحتملة، والصعوبات العملية الأخرى والتي تطرقنا لبعضها آنفاً وتقييم المخاطر التي قد تواجهه سواءً في المحكمة أو إذا أطلق سراحه بالبراءة أو برجوعه عن معتقده أو أفكاره.

إن جوهر جريمة الردة في القانون الجنائي السوداني هو منع المسلم من المجاهرة بتغيير دينه من الإسلام إلى دين آخر أو التخلي عن الإسلام إلى غير ما دين كالإلحاد. وقد تطور هذا التجريم لاحقاً ليشمل الطوائف المخالفة للطائفة التي تنتمي إليها السلطة الحاكمة، وهذا النوع الأخير من التجريم هو الأكثر شيوعاً في السودان والعالم الإسلامي ككل؛ وقد تمت به محاكمة جماعة القرآنين بمحكمة النصر بالخرطوم في العام ٢٠١٨، وكذلك محاكمة جماعة الإخوان الجمهوريين وأعدم مؤسس الجماعة كما ذكرنا آنفاً.

وكانت للردة في القانون الجنائي السوداني عدة عقوبات، أولها الإعدام في حال رفض المتهم، عقب استتابته الرجوع للإسلام أو رفض التخلي عن أفكاره أو ترْك الانتماء لطائفة دينية تراها المحكمة خارجة عن ملة الإسلام. أما إذ قبل الشخص التوبة والرجوع للإسلام أو التخلي عن أفكاره فلم تكن ثمة عقوبة عليه ما لم يكن قد سب الرسول أو صحابته وزوجاته أو طعن فيهم. وفي هذه الحالة تسقط عقوبة الإعدام وتوقع عوضاً عنها عقوبة السجن بما لا يجاوز خمس سنوات أو الجلد (لم يكن القانون ينص على عدد محدد للجلد).  

شكلت الردة بمعناها هذا انتهاكا واضحاً لحرية الدين والعقيدة والفكر، كما أن الغائها مع الإبقاء على النصوص المشار اليها أعلاه تُعد استمراراً لهذا الانتهاك، يُخالف الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها السودان. ومن ناحية ثانية فإن النظام القانوني السوداني ينطوي على تفضيل واضح للدين الإسلامي، والمذهب السني على وجه أخص، على غيره من الأديان وأن الدولة لا تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، والدليل على ذلك أن من يتخلّ عن دينه أو معتقده ويعتنق الإسلام يصبح مرحباً به وتمنحه الدولة منحة مالية تعرف بسهم المؤلفة قلوبهم وفقاً للمادة ١/٣٨ من قانون الزكاة لسنة ٢٠٠١.

 

الخطوة الثانية: مرحلة التحري والمحاكمة

كما ذكرنا سابقًا، فإن جريمة الردة كان معاقباً عليها بالإعدام، وبالتالي لا يمكن الإفراج عن المتهم بالضمان وفقًا للمادة (١٠٦) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة ١٩٩١، مما يعني مقابلة المتهم في الحراسة. وغالباً ما يواجه المحامون مشكلة في مقابلة الضحية، فعلى الرغم من أن المتهم يتم حبسه في السجن مما يعني أن إذن المقابلة يصدر من إدارة السجن، حيث يٌرحل المتهم من حراسة الشرطة خلال ثلاثة أيام من تاريخ القبض، إلا أن إدارة السجن كثيراً ما تنصلت من دورها في هكذا قضايا وطلبت أخذ الإذن من النيابة أو المحكمة بحسب الحال. وفي كلٍ، يمكن للمحامي تقديم طلب المقابلة للجهات المذكورة لا تملك حق الرفض.

وحيث يظل المتهم سيظل محبوساً قيد الانتظار أثناء فترة التحري والمحاكمة، على المحامي في مرحلة التحري أن ينبه المتهم للتمسك بحقه الدستوري والقانوني في اعتناق أي معتقد أو دين أو الانتماء لأي طائفة داخل الدين المعين، وتوضيح كل التفاصيل، بما في ذلك حقه في التراجع، إن هو أراد، هو حق مكفول له في أي وقت قبل تنفيذ حكم الإعدام، في حالة الإدانة.

يجب عرض محضر التحري أو المحاكمة على رئيس الجهاز القضائي المختص إذا استمر الحبس ستة أشهر، وفي كثير من الأحيان يتم هذا الإجراء بشكل روتيني دون تمحيص، وأحياناً لا يتم. هنا، من الأفضل أن يتقدم المحامي بطلب للمحكمة أو النيابة لعرض المحضر على رئيس الجهاز القضائي مبيناً الأسباب والحجج التي تسند طلبه وتقنع رئيس الجهاز القضائي ليُعمل سلطته التقديرية في الافراج عن موكله.

الخطوة الثالثة: التدخل بواسطة المحامي كممثل للمتهم

طبقاً لأحكام قانون المحاماة لسنة ١٩٨٣ يتمتع المحامي في النظام القانوني السوداني بالوكالة العامة التي تخوله الحق في الظهور نيابة عن المتهم دون الحاجة إلى توكيل، ولا تطلب المحاكم عادة إبراز مستند من هذا النوع.

وفي قضايا الردة، بشكل عام، وعند بدء الإجراءات أمام المحكمة ننصح المحامي بأن يسلك أحد طريقين في بداية الإجراءات:

الطريق الأول: أن يتقدم بعريضة لحماية حق دستوري أمام المحكمة الدستورية ويطلب منها إصدار أمر فوري بوقف إجراءات القضية أمام محكمة أول درجة إلى حين الفصل في القضية الدستورية. وأن يبين في العريضة الدستورية الحقوق الدستورية التي أهدرت بحسب وقائع القضية المعينة. ويطلب من المحكمة الدستورية في نهاية العريضة شطب الدعوى الجنائية المقامة في مواجهته وإعلان عدم دستورية نص المادة ١٢٦ من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١.

الطريق الثاني: أن يستمر المحامي في مناهضة قضية الردة بكافة الوسائل القانونية المتاحة أمام المحاكم بمختلف درجاتها انتهاء بدائرة المراجعة بالمحكمة القومية العليا، ومن ثم يتقدم المحامي بعريضة طعن دستوري أمام المحكمة الدستورية بعد استنفاد جميع درجات التظلم التي يتيحها القانون.

وعلى المحامي أن يستند في مناهضته للردة على النصوص المتعلقة بالحريات الدينية وحرية الاعتقاد والفكر والمنصوص عليها بموجب أحكام المادة ٥٦ الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها السودان، وأن يبين التعارض بين تجريم الردة وهذه النصوص.

والخيار الثاني في تقدرنا هو الأضمن إذا وضعنا في الاعتبار أن المحكمة الدستورية كثيراً ما تتخذ من عدم استنفاد طرق التظلم المتاحة سبباً لشطب القضية وإغلاق الباب أمام الطعن في دستورية القوانين المبنية على الشريعة الإسلامية.

وخلافاً لمعظم الدعاوى الجنائية، فان الحكم بالبراءة في هكذا دعاوى لا يعني دق طبول الفرح، بل في كثير من الأحيان يضع الشخص المبرأ في مواجهة الجماعات المتطرفة التي لم يمنعها من قتل هذا الشخص سوى انتظار حكم الإعدام من المحكمة مما يضعه في مواجهة مباشرة معهم، لا سيما في دول ينتشر فيها التطرف الديني، الأمر الذي يؤدي بدوره للقتل خارج إطار القانون بواسطة هذه الجماعات. وفي مثل هذا النوع من القضايا تكثر التهديدات بالقتل بواسطة المتطرفين خصوصاً إذا أعلنت المحكمة براءة المتهم من جريمة الردة. ففي مثل هذه الحالات يجب على المحامي أن يدون بلاغاً بالتهديد الذي يتعرض له المتهم بغرض توفير الحماية للمتهم، وينطبق الأمر ذاته على شهود الدفاع إذا تعرضوا لنفس الخطر.

الخطوة الرابعة: مباشرة المرافعات أمام المحكمة

في أثناء سير إجراءات المحاكمة يقوم المحامي باستخدام مهاراته القانونية والفنية في مناقشة شهود الاتهام بغرض تفنيد قضية الاتهام، وتقديم المستندات والشهود الذين يراهم مناسبين لدعم قضية دفاع المتهم. ويعتمد تحديد الشهود على القراءة المتأنية لوقائع القضية ومن ثم تحديد شهود ومستندات الدفاع تأسيساً على وقائع كل قضية على حدة.

قضية الردة من القضايا الخلافية في الفقه الإسلامي، وهناك العديد من الفقهاء المسلمين الذين لا يؤيدون تطبيق هذه الجريمة على الأشخاص وخصوصاً في مسألة تكفير الطوائف لبعضها البعض. وقد ذكرنا فيما تقدم أن الدولة قد اتبعت المنهج الأصولي السني في تقنين جريمة الردة ومن ثم اعتبرت معظم الطوائف الأخرى واقعة تحت طائلة هذه المادة، لذلك يفضل سماع أي شهود لا يؤيدون تجريم الردة وتقديم كتبهم ومقالاتهم كمستندات من قبيل العلم القضائي.

من ناحية ثانية ومن باب العلم القضائي المنصوص عليه في المادة ١٤ من قانون الإثبات لسنة ١٩٩٤، يجب على المحامي الإشارة في مرحلة المرافعات الختامية لأي قرارات صادرة من لجان حقوق الإنسان الإقليمية والدولية في هذا الخصوص وعلى سبيل المثال التعليق العام رقم ٢٢ الصادر من اللجنة المعنية بحقوق الإنسان بالأمم المتحدة والذي ينص صراحة على الحق في تغيير الدين.

الخطوة الخامسة: مراحل استئناف قرار المحكمة

كانت جريمة الردة من الجرائم المعاقب عليها بالإعدام، لذا فإن المحكمة المختصة بنظرها هي المحكمة الجنائية العامة. فإذا صدر قرارها بإدانة المتهم فيجب استئناف القرار لمحكمة الاستئناف خلال خمسة عشر يوماً طبقاً لأحكام المادة ١٨٤ من قانون الإجراءات الجنائية لسنة ١٩٩١، وإذا تأيد القرار فيجب استئنافه للمحكمة العليا وبعدها لدائرة المراجعة بالمحكمة العليا. وأخيراً يقدم طعن دستوري للمحكمة الدستورية يقوم على سبب رئيسي وهو إعلان عدم الدستورية، ومن ثم بطلان كافة إجراءات المحاكمة مع إعلان براءة المتهم. وتتم الإشارة لنصوص الوثيقة الدستورية والمادة ١٨ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة ١٨ من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لأن السودان وقع وصادق عليه وبالتالي فهو ملزم للمحاكم السودانية طبقاً لنص المادة ٤١ من الوثيقة الدستورية.

أخيراً، وحيث أُلغيت الردة ولا زال سيف الاتهام تحت نص المادة ١٤٥ مسلطاً على من يُغير دينه، وكذا الحال بطلان الزواج والحرمان من الميراث وغيرها من الحقوق، فان الطريق الأمثل، في تقديرنا، هو اللجوء للمحكمة الدستورية صاحبة الاختصاص في إعلان عدم دستورية هذه النصوص التي تُميز بين المواطنين على أساس الدينك كذلك، وكما أسلفنا، فان الاستعداد للمعارك القانونية في المحاكم غاية في الأهمية ويُمهد الطريق للطعن الدستوري، وبما المفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان، وهي المعركة الأساسية لإلغاء النصوص التمييزية، ليس لصالح الموكل فحسب، بل للناس كافة.