الحمل كوسيلة لإثبات الزنا

هذا المقال يوضح إستخدام المشرع للفقه الإسلامي التقليدي كأساس لتجريم المرأة وعلى وجه الخصوص في قضايا تجريم الجنسانية. فالمقال يهدف لتعريف المحامين المدافعين عن حقوق المرأة والحريات الدينية بالطرق الأمثل لمناهضة هذه القوانين التي تميز ضد النساء والطرق القانونية المثلى للدفاع عنهن. في هذا المقال سيجد المحامي الدفوع الموضوعية التي يمكن أن يستند عليها في دفاعه والإجراءات التي يمكن أن يتبعها في مباشرة القضية.

مقدمة

 سُنّت القوانين على أساس الشريعة الإسلامية في السودان كما رآها واضعو هذه القوانين وهم جماعة الإخوان المسلمين، وإحدى الجماعات الأصولية السلفية التي تتبنى مبدأ التطبيق الحرفي للشريعة الإسلامية كما جاءت في كتب الفقه الإسلامي السني. فتضمن القانون الجنائي لسنة 1991م ستة جرائم أسماها (جرائم الحدود)، وهي الردة والسرقة والحرابة والزنا والقذف وشرب الخمر. ويعاقب على هذه الجرائم بعقوبات قاسية ولا إنسانية وهي الإعدام والإعدام مع الصلب والإعدام رجماً وقطع اليد وقطع اليد والقدم من خلاف والجلد. وتنص المادة (5) من القانون الجنائي على أن تسري أحكام هذا القانون على كل جريمة أرتكبت كلها أوبعضها في السودان. ووفقاً لهذا النص فإن المشرع قد إعتمد المعيار الموضوعي في تطبيق القانون عوضاً عن المعيار  الشخصي، بمعنى أن عقوبات جرائم الحدود تطبق على كل شخص بغض النظر عن دينه أو طائفته أو فهمه الشخصي للدين إذا كان هذا الفهم مغايراً لما تم إعتماده في نصوص القانون، وذلك باستثناء حد الخمر الذي يطبق على الذي يطبق على المسلم دون غيره.

في هذا المقال، سنتعرض لوسيلة واحدة من وسائل إثبات هذه الحدود وهي (الحمل) كوسيلة من وسائل إثبات جريمة الزنا . فعلى الرغم من تجريم الزنا وإعتبارها (حداً شرعياً) يُعد في ذاته إنتهاكاً لحقوق غير المسلمين أو حقوق المسلمين ممن لا يرونها حداً أو جريمة، إلا أننا سنتعرض لإعتماد قانون الإثبات للحمل كإحدى وسائل إثبات جريمة الزنا وما يترتب على ذلك من إنتهاك للحريات الدينية والشخصية.

ارتبط تجريم الجنس في التشريعات السودانية الحديثة ارتباطاً وثيقاً بالعقلية البطريركية الدوغمائية. وقد بدأت أولى خطوات تجريم الجنس لغير المتزوجين في عدد من التشريعات القديمة ولكنها تجلت في أسوأ أشكالها في العام 1983م في قانون عقوبات السودان لسنة 1983م. وفي أعقاب تولي الجبهة الإسلامية لسدة الحكم في السودان في العام 1989 اصدر النظام السوداني القانون الجنائي لسنة 1991م، و الذي هو في جوهرة نسخة من قانون 1983م، حيث تم تقنينه بإضافة آليات تنفيذية للقانون وتشريعات النظام العام الولائية والتي بموجبها تم إصدار حزمة من القوانين المبهمة والتي تركز في تجريم السلوك الشخصي للمواطنين مثل عمل النساء في أوقات معينة ورقص النساء أمام الرجال .

وقد عرفت المادة ١٤٥ من القانون الزنا، ونصت المادة ١٤٦ على عقوبته، بينما تناولت المادة ١٤٧ مسقطات العقوبة.

الخطوة الأولى: التحليل القانوني

من يطالع التشريعات السودانية الحديثة والمتعلقة بتجريم الجنسانية ، يلامس بوضوح لا لبس فيه تجليات العقلية البطريركية المنغلقة، وذلك في القواعد التي وضعها المشرع لإثبات جريمة الزنا والتي تهدف بشكل مباشر إلى تجريم المرأة دون الرجل . فقد نصت المادة 62 من قانون الإثبات لسنة 1994م على أربع وسائل لإثبات جريمة الزنا، وهي:الإقرار، شهادة أربع رجال عدول، الحمل لغير المتزوجة إذا خلا من شبهة ونكول الزوجة عن يمين اللعان بعد حلف زوجها يمين اللعان.

ونلاحظ بشكل واضح أن وسائل الإثبات الأربعة هي وسائل تكاد تنعدم فيها فرص النساء للدفاع عن أنفسهن. و أن وسيلتين من الوسائل الأربع تخصان المرأة دون الرجل، وهما الحمل ونكول الزوجة عن يمين اللعان إذا لاعنها زوجها. فبالنسبة للحمل فهو الوسيلة الأيسر لشد الوثاق على المرأة، وأما اللعان فهو سلطة مطلقة للرجل وسلاح يشهره وقتما يشاء سواءً بإدعاء الزنا أو نفي النسب. وبتبني المشرع السوداني للحمل واللعان كوسيلتين لإثبات الزنا، تتجلي بوضوح التوجهات الأيديولوجية والتي كان مسعاها في الاساس وضع المرأة تحت وصاية الرجل، بحيث يحرم عليها الخروج من البيت بغير إذن وليها، إن لم تكن متزوجة، أو إذن زوجها إن كانت متزوجة. ويظل هذا الإذن، بعد الحصول عليه، مشروطاً بمصاحبة المحرم.
إلا أنه ورغم تضييق الخناق علي النساء من قبل المشرع فإن حزمة التشريعات السودانية قد باءت بالفشل علي مستوي الممارسة حيث لم تفلح تلك التشريعات في الحد من حركة النساء أو من تواجدهن في الحياة العامة. فالمرأة في السودان تعمل في الحقل والسوق وتشغل الوظائف بمختلف درجاتها، ولها الحق في السفر خارج السودان دون محرم. و يعود الفشل الذى صاحب تلك التشريعات لأسباب عديدة وموضوعية: أولها أن تلك التشريعات لا علاقة لها بالواقع المعاش وتطورات الحياة أو متطلباتها فالمرأة في السودان سبق أن خطت خطوات متقدمة في مجال الحقوق، أضحى معها من العسير وضعها في قالب مماثل لثقافة مجتمعات عاشت في حقبة تاريخية بائدة.

ومن هذه الزاوية، يتبين الخطل والإزورار في إعتماد المشرع السوداني للحمل كوسيلة من وسائل إثبات جريمة الزنا. ويمكن تصور هذا الإشكال في حالة أن تسافر امرأة إلى إحدى الدول التي لا تعتمد الولاية على المرأة كشرط لصحة الزواج كتونس ومصر وغيرها، أو الدول التي لا تجعل من الدين سبباً لسلب إرادة المرأة في إختيار زوجها.

وأوضح مثال لهذه الواقعة سابقة: حكومة السودان //ضد// مريم يحيى إبراهيم ودانيال واني بسينسو، حيث قُدّمت السيدة مريم للمحاكمة لإتهامها بمخالفة المادة 126 من القانون الجنائي لسنة 1991م (الردة، قبل التعديل في العام ٢٠١٥) والمادة 146 (الزنا). هذا وقد أدانتها محكمة الموضوع بإرتكاب جريمة الزنا لأنها حبلى من زواج لا يعتد به القانون، طبقاً لأحكام البند (3) من المادة 145 (لا يعتبر النكاح المجمع على بطلانه رباطاً شرعياً). وقد ألغي هذا الحكم في مراحل أعلى لأسباب مختلفة، ولكنه يبقى مثالاً على أن الحمل سببٌ في إدانة المرأة بإرتكاب جريمة الزنا وإن كانت ترى أنها قد تزوجت زواجاً صحيحاً.
وتظهر مشكلة اعتماد الحمل كوسيلة لإثبات الزنا، من زواية أخرى، في الحالات تنزح فيها المرأة إلى المدن بسبب الكوارث الطبيعية والحروب والمجاعات، وكذلك الظروف الإقتصادية التي تجبر الأزواج على الهجرة إلى المجهول بحثاً عن الرزق، ويتركون خلفهم زوجات حوامل أو لهن أطفال. وينطبق ذات الحال على النساء المهاجرات واللاجئات الي السودان من دول مجاورة بسبب ذات الظروف. و قد ظهرت هذه الاشكالية بصورة بجلاء في قضية فتاة إثيوبية التي تعرضت لإغتصاب جماعي في العام 2014م، ونشرت هذه الواقعة على وسائل التواصل الإجتماعي (واتس آب وفيس بوك). حيث اتضح أثناء المحاكمة أنها حامل قبل واقعة الإغتصاب الجماعي بعدة أشهر. الأمر الذي حدا بالنيابة لأن تفتح دعوى جنائية منفصلة في مواجهتها لأنها حامل من غير زواج، وذلك على الرغم من أنها دفعت بأنها متزوجة في إثيوبيا وجاءت للسودان هرباً من الحرب والظروف الإقتصادية المتردية. وعلى الرغم من أن قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م قد نص على إجراءات سير المحاكمة والتي يجب أن تبدأ بقضية الإتهام ثم الدفاع المادة 136، وعلى الرغم من أن المادة 141/2 منه تنص على وجوب شطب الدعوى الجنائية إذا لم يقدم الإتهام بينة كافية في مواجهة المتهم، إلا نص المادة (62) من قانون الإثبات لسنة 1994م يقلب المشهد بحيث لا يحتاج الإتهام إلا لإثبات واقعة الحمل، ليقع بعدها العبء الأثقل على المتهمة بإثبات واقعة زواجها من زوجها الذي لا تعلم مكانه، هذا مع العلم بأن الزواج في الأرياف السودانية وغيره من الدول الافريقية لا يتم بوثائق رسمية صادرة من الدولة.

ومبدأ التطور يقتضي أن يكون التشريع اللاحق أفضل من السابق، غير أن قانون الإثبات الذي صدر بعد ثلاث سنوات من صدور قانون الإجراءات الجنائية، تحرك خطوة إلى الوراء عندما إعتمد مذهب الإمام مالك في إعتبار الحمل بينة على الزنا، ليلقي بعبء الإثبات في قضية الزنا علي المرأة .
وعلي الرغم من أن التقاليد الإسلامية وفى مراحل تاريخية متعددة قد أتاحت منافذ عديدة لتجنب تجريم النساء خشية الوقوع في فخاخ المظالم ولتعقيد قضايا الجنسانية. فمثلا ابن حزم يصر علي وجوب التفريق بين ما إذا كان الزوجان غريبين أو معروفين، فإن كانا غريبين أو لا يُعرفان فلا شيئ عليهما، ولا يُعرض لهما ولو قامت البينة على الوطء، ولا يكلفان إقامة البينة على النكاح. ولكن مالكا يوجب عليهما أن يثبتا الزوجية.وقد تواطأ المشرع السوداني علي اختيار أكثر النصوص تشددا ومفارقة لتعقيدات الواقع.

نخلص مما تقدم أن المشرع السوداني عندما تناول مسألة تجريم الجنسانية في التشريعات السودانية لم يضع في الاعتبار تعقيدات الواقع السوداني والتي تفرض سيناريوهات لم تخطر ببال الفقهاء التقليديين والذين توجدوا في صياغات ثقافية تاريخية مغايرة تماما. وقد اتضح للعديد من الفاعلين النظام القانوني السوادني عمق تلك الاشكالية مثال ما طرحة القاضي عبدالرحمن شرفي، قاضي المحكمة العليا سابقاً ورئيس المحكمة الدستورية في وقت لاحق، للقائمين على أمر التشريع بالعدول عن قاعدة إثبات الزنا بالنكول عن يمين اللعان والحمل، وذلك عند نظره في قضية حكومة السودان /ضد/ خ ف إ النمرة م ع / غ إ/ إعدام/ 60/ 2006م. ودعا لهذه المناشدة مما لمسه من مشاكل عملية نتجت عن تطبيق القانون.

فمسألة تجريم الجنسانية كما وجدت في التشريعات السودانية تعتمد علي أن الفقه الإسلامي المدون في فترة التدوين والأئمة المجتهدين هو المثال الذي يجسد الإسلام، وذلك دون مراعاة للتباين الكبير بين الظرف الموضوعي التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي أنتج فيه هذا الفقه، والظرف الموضوعي للمجتمع السوداني وقت إصدار هذه القوانين. حيث أدى هذا التكريس الدوغمائي إلى اختلال كبير في التشريعات السودانية و إغترابها عن المجتمع وقضاياه وفي فاعليتها في تكريس العدالة. حيث وضعت تلك التشريعات النساء والمجتمع السوداني في وضع متناقض ما بين بنية الدولة الحديثة والتزاماتها الدولية والتطور المطرد للنساء وادوارهن في المجتمع وما بين تشريعات تدعو لأحكام الجلد والرجم بسبب إعتماد المشرع لمعايير مثل الحمل لإثبات جريمة الزنا.

 

 

الخطوة الثانية: مقابلة الضحية وجمع البيانات الأولية عن القضية

الإتهام بجريمة الزنا له أثر نفسي سيئ على نفس الضحية ويمثل تدخلا سافرا في شؤونها الخاصة، إذ أن القانون يعتبرها من القضايا الأشد خطورة ويعاقب عليها بالإعدام رجماً إذا كانت المرأة متزوجة. على المحامي عند مقابلة الضحية أن يأخذ البيانات الأولاية عن الضحية والبيانات المتعلقة بالقضية وملابسات القبض عليها وأسماء وعناوين الشهود الذين حضروا لحظة القبض. كما على المحامي أن يتحرى عن أي حالات تحرش بالضحية لأن الممارسة العملية أثبتت أن أفراد الشرطة كثيراً ما يتحرشون بالضحايا في مثل هذا النوع من القضايا.

الخطوة الثالثة: تمثيل المحامي للضحية

 

للدفاع عن النساء في هذا النوع من القضايا فيمكن إثارة عدة مسائل متعلقة بحقوق الإنسان ومضمنة في الوثيقة الدستورية أو المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها السودان، ومن هذه المسائل ما يلي:

  • إعتماد الحمل كوسيلة لإثبات الزنا فيه تمييز واضح ضد المرأة على أساس جنسها، وفي ذلك مخالفة لمبدأ عدم التمييز المنصوص عليه في العهدين الدوليين والمضمن كذلك في الوثيقة الدستورية.
  • إجراءات المحاكمة في هذا النوع من القضايا تقلب عبء الإثبات بحيث يصبح مجرد الحمل مدعاة لإلزام المرأة بتقديم بينة لإثبات واقعة زواجها، مع أن الأصل في الإجراءات الجنائية والإثبات في القضايا الجنائية هو أن يثبت الإتهام أن المرأة غير متزوجة من خلال بينة قاطعة، وفي حال فشله في ذلك تشطب الدعوى الجنائية. وسير الإجراءات وقواعد الإثبات على غير هذا النحو يعد إنتهاكاً جسيماً لمبدأ المحاكمة العادلة المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

وعلينا أن ننتبه إلى أن الطعن في الحمل كوسيلة من وسائل إثبات الزنا يجب أن لا يصرفنا عن المبدأ الأساسي المتعلق مناهضة تجريم الجنسانية إستناداً على الدين وما ينطوي عليه هذا الأمر من تمييز ضد الأديان والطوائف الأخرى، وأن ما أوردناه في هذا المقال هو مما قد تقتضيه طبيعة سير الإجراءات في المحكمة من ناحية، وما ينطوي عليه من تمييز يمكن بيانه والإستفادة منه في قضية الدفاع لمناهضة فرض أحكام الدين بقوة القانون.

هذه النقاط يمكن إثارتها أمام المحاكم العادية بمختلف درجاتها كما يمكن أن تثار أمام المحكمة الدستورية مشفوعة بإلتماس بإعلان عدم دستورية هذه النصوص لأنها تخالف الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها السودان.

الخطوة الرابعة:  مراحل استئناف قرار المحكمة

إذا صدر قرار محكمة أول درجة بإدانة المتهمة والحكم عليها بالجلد، فيجب تقديم طلب فوري بوقف إجراء التنفيذ إلى حين إنقضاء مراحل الاستئناف طبقاً لأحكام المادة ١٩٠من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م. ومن ثم يجب استئناف القرار لمحكمة الاستئناف خلال خمسة عشر يوماً 15، وإذا تأييد القرار فيمكن استئنافه للمحكمة العليا وبعدها لدائرة المراجعة بالمحكمة العليا. وأخيراً يقدم طعن دستوري للمحكمة الدستورية يقوم على سبب رئيسي وهو إعلان عدم دستورية المادة 62 من قانون الإثبات لسنة 1994م لأن تنطوي على تمييز واضح ضد المرأة ومن ثم بطلان كافة إجراءات المحاكمة مع إعلان براءة المتهمة.