اختلاف الدين كمانع للميراث

أُعد هذا المقال ليساعد المحامين في التصدي لقضية حساسة وغاية في الأهمية تتعلق بفقدان الشخص لحقه في الميراث بسبب اختلاف دينه عن دين مُورثه. ذلك أن قانون الأحوال الشخصية للمسلمين يجيز الزواج بين المسلم وغير المسلمة إذا كانت مسيحية أو يهودية، إلا أنه لا يجيز التوارث بينهما. ونسبة للتنوع الكبير في السودان فقد تتكون الأسرة من أفراد يعتنقون أدياناً مختلفة أو لا يدينون بأي دين؛ إلا أن القانون، كما أسلفنا، لا يراعي هذا التنوع بالنص على اختلاف الدين كمانع من الميراث.


والغرض من المقال، هو توضيح الإجراءات التي يمكن إتباعها لمناهضة القوانين التي تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان وتميز بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب اختلاف دينهم.

مقدمة

يحظى المجتمع السوداني بتنوع ديني وثقافي كبيرين، ومن ثمار هذا التنوع أن تتضمن العائلة الواحدة أشخاصاً يدينون بأديان مختلفة أو لا دينيين، كما تتضمن العائلة الواحدة أشخاصاً ينتمون لطوائف متعددة قد لا يعترف القانون ببعضها ويعتبرها طوائف مرتدة. والتجربة العملية لهذا المثال هو قضاء المحكمة الشرعية في قضية محمود محمد طه في العام ١٩٦٨، والتي جاءت الطلبات في صحيفة دعواها مطالبة بإعلان ردة محمود محمد طه عن الإسلام، حل حزبه لخطورته على المجتمع الإسلامي، مصادرة كتبه، واغلاق دار حزبه، إصدار بيان للجمهور يوضح رأي العلماء في معتقدات المدعى عليه، تطليق زوجته المسلمة منه، عدم السماح له أو لأي من أتباعه بالتحدث باسم الدين أو تفسير آيات القرآن ومؤاخذة من يعتنق مذهبه بعد هذا الاعلان، وفصله إن كان موظفا، ومحاربته إن كان غير موظف وتطليق زوجته المسلمة منه.

وقد قضت المحكمة فعلاً بإعلان ردته عن الإسلام واعتبرت بقية الطلبات الواردة في صحيفة الدعوى من الأمور التي تترتب على الحكم. بمعنى أن طائفة الجمهوريين لا تعتبر مسلمة ومن ثم لا يجوز التوارث بين فرد من أفراد هذه الطائفة وبقية أفراد أسرته إذا لم يكونوا منتمين لها، والعكس صحيح.  وبالتالي ينطبق هذا الأمر على بقية الطوائف التي لا يعدها القانون داخلة في حظيرة الإسلام.

ومن الأمثلة الحية حرمان العديد من أبناء وبنات الزوج المسلم والزوجة المسيحية الذين فقدوا حقهم في الميراث بسبب اعتناقهم لدين أمهم؛ بينما يستأثر الإخوة الذين اعتنقوا الإسلام على أنصبتهم في تمييز صارخ على أساس الدين.

 

الخطوة الأولى: توضيح الإطار القانوني لمنع التوارث بسبب اختلاف الدين  

تنص المادة ٣٥١ من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة ١٩٩١ على أنه لا توارث مع اختلاف الدين. ولهذا الحرمان من الإرث ثلاث حالات:

الحالة الأولى: المصاهرة

المصاهرة، وهي الحالة الأكثر شيوعاً، من بين حالات منع التوارث بسبب الدين، وذلك إذا تزوج المسلم من كتابية (مسيحية أو يهودية)، حيث اشترطت المادة ١٣ من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين، من بين شروط أخرى، ألا تكون المرأة محرمة على الرجل تحريماً مؤبداً، أو مؤقتاً؛ وبحسب المادة ١٩ من ذات القانون فالمحرمات بصورة مؤقتة، ضمن حالات أخرى، المرأة التي لا تدين بدين سماوي. وبالتالي تترتب الآثار أدناه:

١. يجوز للرجل المسلم التزوج بامرأة مسيحية أو يهودية،

٢. لا يجوز للرجل التزوج بامرأة تعتقد أو تدين بدين آخر خلاف الإسلام أو اليهودية أو المسيحية،

٣. لا يجوز للمرأة المسلمة التزوج برجل لا يدين بالإسلام.

هذه الحالات التي نص عليها القانون تُميز تمييزاً واضحاً بين الناس بسبب الدين والنوع، ولكن ما يعنينا في هذا المقال هو أنه يجوز للمسلم الزواج من الكتابية وفقاً للشروط التي بيناها أعلاه، لكن لا توارث بينهما.

الحالة الثانية: النسب

ويمنع الميراث بسبب النسب في الحالات التي يثمر فيها الزواج المبين في الحالة الأولى عن أبناء أو بنات، وفي هذه الحالة لا يرث الأبناء أو البنات من أبيهم المسلم إذا كانوا على دين أمهم المسيحية أو اليهودية. والمغزى من منع زواج المسلمة بغير المسلم هو خشية أن يُدين الأبناء بدين أبيهم وذلك بفرض أن الأب دائماً هو عائل الأسرة وصاحب الكلمة العليا. وفي ذلك سند من الفقه والقانون، حيث جاء في حديث رواه البخاري ومسلم في الصحيحين أن محمد (ص) قال: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو، ينصرانه. وفي اللفظ الآخر عند البخاري وغيره: على هذه الملة، وفي اللفظ الآخر: على ملة الإسلام، ويعني هذا أن يولد مسلمًا على فطرة الله الذي فطر عليها الناس. ولكن، وعلى الرغم من ذلك اختار كثير من الأبناء دين الأم، خصوصاً في الحالات التي ينفصل فيها الزوجان وينشأ الأطفال في رعاية والدتهم.

الحالة الثالثة: تغيير الدين

كان تغيير الدين بالنسبة للمسلم جريمة تستوجب الإعدام وفقاً لنص المادة ١٢٦ من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١ قبل التعديل، ولا زالت سببا للحرمان من الإرث. وقد ثارت مسألة قانونية حول التوارث بين أفراد الطوائف الإسلامية فيما بينهم، ذلك لأن التعديل الذي تم في العام ٢٠١٥ اعتبر بعض المبادئ التي تؤمن بها هذه الطوائف ارتدادا عن الإسلام، وهناك أمثلة عديدة لهذه الحالات كقضية القرآنيين في محكمة النصر بالخرطوم وقضية الجمهوريين في ثمانينات القرن الماضي وطوائف الشيعة التي استهدفها المشرع بصورة أساسية بتعديل العام ٢٠١٥ وغيرها. فبنص القانون لا يجوز التوارث بين أفراد هذه الطوائف وأقاربهم.

العديد من الأمثلة على هذه القضايا تشمل قضية في محكمة أم درمان، وقضية القرآنيين في محكمة النصر، وقضية الإخوان الجمهوريين (في الثمانينيات)، بالإضافة إلى الطوائف الشيعية التي يستهدفها المشرع بشكل أساسي من بين قضايا أخرى. وبحسب القانون، لا يجوز الميراث بين أفراد هذه الطوائف المتهمين بالردة وأقاربهم، باعتبار أن أقاربهم لا ينتمون إلى طائفتهم.

الآثار العملية في منع الميراث بسبب الدين

يتمتع المجتمع السوداني بتنوع ديني وثقافي كبير، ومن نتائج هذا التنوع أن الأسرة الواحدة يمكن أن تضم أشخاصًا مسيحيين أو مسلمين أو غير متدينين. يمكن أن تضم نفس العائلة أيضًا أفرادًا ينتمون إلى مجتمعات مختلفة، قد لا يعترف القانون ببعضهم، وبالتالي يُعتبر مرتكبون للردة. والحالة العملية لهذا المثال هي حكم المحكمة الشرعية في قضية محمود محمد طه عام 1968. تضمن بيان المطالبة الطلبات التالية:

أ- إعلان ردة محمود محمد طه كما ثبت بالدليل.

ب ـ حل حزبه لتشكيله خطرا على المجتمع الإسلامي.

ج- مصادرة كتبه وإغلاق مقر حزبه.

د- إصدار بيان عام يوضح رأي العلماء في معتقدات المتهم.

هـ- طلاق زوجته المسلمة.

و- منعه هو أو أي من أتباعه من التحدث باسم الإسلام أو تفسير آيات القرآن.

ز- معاقبة من اعتنق طائفته بعد هذا الإعلان، وفصله إذا كان موظفاً، ومكافحته إذا لم يكن موظفاً، وطلاق زوجته المسلمة منه.

وحكمت المحكمة وأعلنت ارتداده عن الإسلام واعتبرت بقية الطلبات الواردة في بيان الدعوى من آثار الحكم. وبهذا المعنى، فإن الإخوان الجمهوريين لا يعتبرون طائفة إسلامية، وبالتالي لا تجوز الميراث بين فرد من هذه الطائفة وعائلته، باعتبار أن أفراد الأسرة غير منتمين لهذه الطائفة والعكس صحيح. وبالتالي، فإن هذا ينطبق على المجتمعات الأخرى التي يعتبرها القانون غير تابعة للإسلام.

ومن الأمثلة الجيدة أيضًا أن العديد من أبناء وبنات الأزواج المسلمين والزوجات المسيحيات فقدوا حق الميراث بسبب اعتناقهم دين أمهاتهم. من ناحية أخرى، حصل الكثير منهم على الميراث لكونهم مسلمين على حساب إخوانهم أو أخواتهم الذين تبعوا أمهاتهم واعتنقوا المسيحية.

الخطوة الثانية: مقابلة المتضررين من القانون

جرت العادة على أن يستخرج الاعلام الشرعي (مستند يصدر من المحكمة الشرعية يُحدد الورثة) بواسطة أحد الورثة، وفي معظم الأعيان يتم حصر جميع الورثة دون التدقيق في ديانتهم، على افتراض انهم مسلمون بحسب الأسماء. كما أن المحكمة لا تلقى بالاً لأي ادعاء بالردة عن الإسلام ذلك أن إقرار الوارث أمامها انه مسلم يكفي لاعتماده كوريث. لكن، تثور المشكلة عندما يرد أحد الورثة بأنه غير مسلم، حيث تستبعده المحكمة من الاعلام الشرعي وتحرمه من الميراث لاختلاف دينه عن دين مورثه، وهو الإسلام. يجب على المحامي هنا التحقق من المعلومات المتعلقة بحرمان شخص معين من الميراث بالسؤال عن علاقته بالمتوفى ومن ثم التحقق من البيانات الموضحة في الإعلام الشرعي للتأكد من الأسباب التي استندت عليها المحكمة في حرمان الشخص من الميراث، ويجب ملاحظة أن هذا الأمر يرتبط فقط بمحكمة الأحوال الشخصية للمسلمين إذا كان المتوفى مسلماً، بينما ينعقد الاختصاص لمحكمة الأحوال الشخصية لغير المسلمين حال لم يكن المتوفي مسلماً.

بعد ذلك يجب التأكد من رغبة الشخص المحروم من الميراث في مناهضة نصوص القانون التمييزية، ذلك أن هذا النوع من القضايا يعتبر من قضايا التقاضي الاستراتيجي. 

الخطوة الثالثة: تدخل المحامي كممثل قانوني والإجراءات التي يمكن اتباعها

هذا النوع من القضايا يتضمن انتهاكا صريحاً للدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، إذ يشتمل على تمييز على أساس الدين، كما لا يعترف بالمواطنة كأساس للحقوق. لذا فأي قضية من هذا القبيل تصلح للتقاضي الاستراتيجي، أي أن نجاح القضية، خصوصاً في المحكمة الدستورية، يعني عدم دستورية المادة مما ينعكس ايجاباً أشخاص آخرين لهم قضايا مشابهة.

وفقًا لقانون المحاماة لعام 1983، يعتبر المحامي المرخص له محاميًا عامًا وله الحق في تمثيل العملاء دون الحاجة إلى إبراز توكيل رسمي أو أي مستند آخر للمحكمة.

لذلك سنقوم بتوضيح الإجراءات القانونية الواجب اتباعها من حيث الإجراءات والأسس الموضوعية التي يمكن اعتمادها في مكافحة التمييز على أساس الدين والنوع.

الخطوة الرابعة: الاجراءات والاستئناف

في الغالب تبدأ الإجراءات في هذا النوع من القضايا أمام محاكم الأحوال الشخصية للمسلمين عندما يتقدم الورثة بطلب لاستخراج إعلام شرعي لحصر تركة المتوفى وورثته إذا كان مسلماً. وعادة ما تحرم المحاكم من يختلفون في الدين مع المتوفى، أي إذا لم يكونوا مسلمين، وتؤول التركة للورثة المسلمين.

والإجراء عند الاعتراض على محتوى الإعلام الشرعي يكون عبر طلب تصحيح يقدم للمحكمة العليا؛ وفي حال رفضه يمكن تقدم طلب مراجعة أمام دائرة المراجعة ومن ثم تقديم دعوى دستورية أمام المحكمة الدستورية.

عند تقديم طلب التصحيح لدى المحكمة العليا أو دائرة المراجعة بالمحكمة العليا، يجب إثارة المواضيع المتعلقة بالحقوق الواردة في الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية التي صادق عليها السودان مع الإشارة إلى أن المحاكم العادية، أي بخلاف المحكمة الدستورية، ملزمة بتطبيق نصوص الدستور وأن الأمر ليس حكراً على المحكمة الدستورية. وفي حالة تقديم التماس بهذا المعنى لأي محكمة بخلاف المحكمة الدستورية فيلزم توضيح أن هذا الالتماس لا يطالب المحكمة بالقيام بوظيفة المحكمة الدستورية ومن ثم إعلان عدم دستورية المادة بل يناشد المحكمة بعدم تطبيق أي نص قانوني يتعارض مع نصوص الوثيقة الدستورية عموماً ووثيقة الحقوق على وجه الخصوص. والهادي في هذا الرأي الذي ذهبنا إليه هو نص المادة ٦/٢ من قانون تفسير القوانين لسنة ١٩٧٤ والتي تقرأ كالآتي: "إذا تعارض أي نص في أي قانون مع أي حكم من أحكام الدستور، تسود أحكام الدستور بالقدر الذي يزيل ذلك التعارض" كما تنص الفقرة ٣ من ذات المادة على أن: "تسود أحكام القانون اللاحق على القانون السابق بالقدر الذي يزيل التعارض بينهما. وبالتالي يتضح أن المعني بتطبيق هذه النصوص هي المحاكم العادية (بخلاف المحكمة الدستورية)،

لأن المحكمة الدستورية، بحكم وظيفتها التي حددتها الوثيقة الدستورية وقانونها الخاص، لا تتقيد بأي قانون آخر متى تعارض هذا القانون مع الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها السودان. بمعنى آخر، فإن المشرع عندما وضع نص المادة السادسة من قانون تفسير القوانين لسنة ١٩٧٤، قصد أن يتم تطبيقها بواسطة المحاكم العادية.

كما أن الوثيقة الدستورية نفسها قد نصت في المادة ٦٧ منها على أنه لا يجوز الانتقاص من الحقوق والحريات المنصوص عليها في الوثيقة، وأن تصون المحكمة الدستورية والمحاكم المختصة الأخرى هذه الوثيقة وتحميها وتطبقها، وتراقب مفوضية حقوق الإنسان تطبيقها. وببسيط العبارة فإننا نرى أن المحاكم الأدنى ملزمة بتطبيق نصوص الدستور متى تعارضت نصوص القانون مع الدستور. ويدعم رأينا هنا ما قضت به المحكمة العليا في سابقة حكومة السودان //ضد// م. ر. م. مجلة الأحكام لقضائية لسنة ٢٠٠٧ صفـــــ١٤١ـــــــحة، التي جاء فيها أن" الدستور يعلو على القانون ويتعين إتباعه، بوجوب تطبيق نص المادة ١٥٦ من الدستور الانتقالي لسنة ٢٠٠٥، وأن نصوص الدستور تعلو على القانون".

أما في حالة رفض طلب الفحص وطلب المراجعة من قبل المحكمة العليا، فيمكن إقامة دعوى دستورية تعتمد في جوهرها على المبادئ الدستورية ومبادئ حقوق الإنسان التي أشرنا إليها في هذا المقال دون التعرض للالتماس أعلاه والمتعلق بممارسة المحاكم العادية لسلطاتها في حماية الدستور. وذلك لأن المحكمة الدستورية مختصة أصلاً بحماية الدستور طالما تم استنفاد جميع طرق التظلم.